الأخذ والعطاء هما مفهومان أساسيان في العلاقات الإنسانية، وتقوم العلاقات الصحية على مبدأ “التوازن” بينهما. لا يقتصر هذان المفهومان على نوع محدد من العلاقات، بل يشملان جميع أنواع العلاقات الإنسانية، سواء كانت أسرية، عاطفية، صداقة، أو حتى مهنية. ما يجعل العلاقات مرهقة وثقيلة هو غياب التوازن بين الأخذ والعطاء. فعندما يشعر أحد طرفيّ العلاقة أنه يُعطي أكثر مما يأخذ، يتولد لديه شعور بعدم التقدير أو الاستنزاف، مما يؤدي إلى توتر العلاقة وتراجعها.
في العلاقات الصحية، يكون الأخذ والعطاء وجهين لعملة واحدة، إذ أن التوازن بينهما هو ما يجعل العلاقة أكثر استقرارًا وقوة. فهل نحن نُدرك متى يجب أن نُعطي، ومتى يجب أن نتوقف لنأخذ؟ وكيف يمكننا تحقيق هذا التوازن لضمان استمرارية العلاقة بشكل صحي؟
هذا ما سنُناقشه في مقال اليوم، عزيزي القارئ، حيث سنتعرف على مفهومي الأخذ والعطاء، وأهمية التوازن بينهما، بالإضافة إلى الخطوات التي ستساعدك على الوصول إلى التوازن في علاقاتك.
مفهوم الأخذ
الأخذ هو استقبالك لما يتم تقديمه من قِبَل الآخرين، مثل الدعم، الحب، المساعدة. لكنه يتطلب الوعي بحدودك واحتياجاتك، والانفتاح في تلقي المساعدة والمشاعر. إذ نجد أن بعض الأشخاص الذين اعتادوا على العطاء يواجهون صعوبة في الأخذ، حيث يعتبرونه في بعض الأحيان ضعفًا، مما يخلق عدم توازن في العلاقة.
لذا، من المهم أن تُدرك، عزيزي القارئ، أن العلاقات الصحية تتطلب قبول العطاء مثلما تتطلب تقديمه. كما تتطلب الاعتراف بأنك بحاجة إلى الآخرين، سواء بشكل مادي أو معنوي. لكن ينبغي أن يكون الأخذ مصحوبًا بمشاعر الشكر والتقدير حتى لا يشعر الطرف الآخر بأن ما يُقدمه لك أصبح حقًا مكتسبًا، أو أن يشعر بالاستغلال. من أمثلة الأخذ:
- تلقيك للأشياء الملموسة كالهدايا أو الدعم المادي.
- تلقيك لمشاعر إيجابية مثل التعاطف والاحتواء من الآخرين.
- تلقيك للنصائح والمعلومات التي تسهم في تحسين جودة حياتك.
مفهوم العطاء
العطاء هو قدرتك على تقديم أشياء مادية أو معنوية للآخرين دون انتظار مقابل. من أمثلة العطاء:
- اهتمامك بمساعدة الآخرين والاستماع إلى مشاكلهم ودعمهم نفسيًا.
- رغبتك في إسعاد الآخرين عن طريق الهدايا والمال.
- مشاركة تجاربك الشخصية مع الآخرين كي تساعدهم على اتخاذ قرارات حياتية أفضل.
في العطاء، يجب أن تُدرك، عزيزي القارئ، أن العطاء السليم هو الذي يكون نابعًا من رغبة حقيقية في إسعاد الطرف الآخر دون انتظار مقابل فوري، وليس من شعور بالإلزام أو التضحية المفرطة.
لماذا يعتبر التوازن بين الأخذ والعطاء أساسيًا في نجاح العلاقات؟
تحقيق التوازن بين الأخذ والعطاء في العلاقات يعد ضروريًا لأنه القاعدة التي تُبنى عليها العلاقة منذ البداية. فالعطاء المبالغ فيه دون تلقي مقابل يؤدي إلى الشعور بالإرهاق والاستنزاف، كذلك الاعتماد الدائم على الأخذ دون المبادرة بأي عطاء يُولد الشعور بالاستغلال.
بناءً على ذلك، يُعزز التوازن بين الأخذ والعطاء الثقة والاحترام بين طرفيّ العلاقة، إذ يجد كل طرف أن الآخر يُقدر جهوده ومستعد لتقديم الدعم عند الحاجة. كما يجعل التوازن العلاقة أكثر استقرارًا، ويحد من الشعور بالاستنزاف والاستغلال. بالإضافة إلى ذلك، يُعزز التوازن بين الأخذ والعطاء شعور الامتنان، حيث يجد كل طرف أن جهوده تُقابل بالتقدير. مما يُزيد من مشاعر الحب والتواصل الإيجابي بين الطرفين.
كما يُتيح التوازن خلق علاقة مريحة وصحية، حيث يمنح الفرصة لكل طرف كي يكون نفسه دون قلق.
إجمالًا، التوازن في الأخذ والعطاء هو ما يجعل العلاقات تستمر وتنمو بطريقة صحية، وهو ما يُعزز الرضا الشخصي، إ‘ذ يشعر كل طرف بالإنجاز عندما يُسهم في رفاهية الآخر، مما يؤدي إلى سعادة ورضا أكبر في العلاقة.
خطوات بسيطة لتحقيق التوازن بين الأخذ والعطاء في العلاقات
في هذه الفقرة، سنتناول، عزيزي القارئ، الخطوات التي ستساعدك على تحقيق التوازن في علاقاتك بالآخرين، لضمان استقرار العلاقة وتحقيق الرضا المتبادل. هذه الخطوات هي:
1- الوعي بأهمية التوازن
أولى خطوات تحقيق التوازن هي الاعتراف بأن الأخذ والعطاء جزء لا يتجزأ من أي علاقة إنسانية صحية، وأن الوعي بأهمية التوازن يُمكّن الفرد من تقييم ما يُقدمه في العلاقة وما يتلقاه. فالأشخاص الذين يمتلكون وعيًا بتوازنهم العاطفي والمادي يكونون أكثر قدرة على تحديد متى يحتاجون إلى المساندة والدعم، ومتى ينبغي عليهم تقديم العطاء. كما ينبغي على الطرفين إدراك أن العلاقة ليست قائمة على جهود طرف واحد فقط، بل تقوم على الجهد المبذول من كليهما. فهذا الجهد المتبادل هو ما يحافظ على استمراريتها.
2- التركيز على التواصل الصريح
من الضروري أن يتحدث طرفا العلاقة بكل صراحة عن احتياجاتهما وتوقعاتهما، حتى يتمكن كل طرف من استيعاب ما يحتاجه الطرف الآخر وما يمكن تقديمه. كما ينبغي على الطرفين التعبير عن مشاعرهم بكل صدق في حال الشعور بأن هناك خللًا في التوازن. يجب على الطرف الآخر أن يستقبل هذه المشاعر بصدر رحب، وأن يمتنع عن إطلاق الأحكام والانتقادات، بل يحاول احتواء الموقف ويفكر كيف سيُصلح هذا الخلل في علاقتهما.
3- فهم احتياجات الطرف الآخر
فهم احتياجات الطرف الآخر يُعزز مشاعر المحبة والامتنان، إذ تعتمد العلاقات الصحية على القدرة على التعرف على احتياجات الشريك أو الصديق والاستجابة لها بالشكل المناسب. على سبيل المثال، في وقت الشدة، قد يحتاج أحد الأطراف إلى الدعم النفسي والعاطفي بشكل فوري، في حين قد يميل الطرف الآخر في وقت الشدة إلى التمتع بالاستقلالية والخصوصية. لذا، فإن التعرف على هذه الاحتياجات والتواصل بشأنها يخلق بيئة علاقاتية مريحة ومليئة بالثقة.
يمكن أن يحدث ذلك من خلال الاستماع الجيد. هذا لا يعني أن احتياجات الطرفين ستتطابق، ولكن من المهم وجود المرونة الكافية حتى يكون هناك استعداد لتقديم بعض التنازلات وتعديل بعض السلوكيات بناءً على احتياجات الطرف الآخر.
4- الموازنة في تقديم العطاء بنوعيه
يجب أن يكون هناك موازنة بين تقديم العطاء المادي والمعنوي، حتى تُلبى احتياجات العلاقة بالكامل. كما ينبغي على الطرفين تقدير العطاء المعنوي، حيث أنه في بعض الأحيان يكون أكثر تأثيرًا في بعض الأحيان من العطاء المادي.
5- وضع حدود صحية
من المهم أن يحدد كل طرف في العلاقة ما هو مقبول بالنسبة له من حيث العطاء والاحتياجات، وذلك لحماية نفسه من الاستغلال أو الشعور بالإرهاق. فبدون حدود واضحة، قد يجد أحد الأطراف نفسه في مواقف يضطر فيها لتقديم ما يفوق استطاعته، مما يصل به إلى الإرهاق النفسي والعاطفي. بناءً على ذلك، ينبغي على الطرفين الاتفاق على الحدود التي يشعران بالراحة تجاهها. كما يجب عليهما أيضًا احترام تلك الحدود، لأن محاولة تجاوزها ستؤدي إلى خلافات قد تضر بالعلاقة.
6- طلب المساعدة عند الاحتياج
يجب على طرفيّ العلاقة ألا يخجلا من طلب المساعدة والدعم عند الحاجة، لأن ذلك يعكس تفاهمهما ومدى قوة العلاقة. في كثير من الأحيان، يشعر الأفراد بأن طلب المساعدة من الآخرين يدل على الضعف أو الاعتماد الزائد، لكن الحقيقة هي أن العلاقات تقوم على الدعم المتبادل. فعندما يلجأ أحد الأطراف إلى الآخر ويطلب منه المساعدة، فهو بذلك يُظهر له الثقة ويُعزز من الترابط بينهما. في المقابل، يجب أن يكون الطرف الآخر مستعدًا لتقديم الدعم دون أن يعتبر ذلك عبئًا عليه. فمن خلال طلب المساعدة، يشعر الفرد بأن الأعباء تُوزع على الطرفين، مما يُزيد من استقرار العلاقة.
7- التركيز على النمو المشترك
التوازن في الأخذ والعطاء يُعزز النمو الشخصي والعاطفي لطرفيّ العلاقة، إذ يمكن للطرفين دعم بعضهما البعض في تحقيق الأهداف الشخصية والمشتركة. يمكن أن يحدث ذلك من خلال التعاون والتفاهم، والنظر إلى العلاقة على أنها شراكة. فالتعاون هو الأساس للوصول إلى علاقة متوازنة في الأخذ والعطاء.
8- التعبير عن التقدير والامتنان
عندما تتلقى عطاءً من الطرف الآخر، سواء كان ماديًا أو معنويًا، أظهر له مشاعر الامتنان والتقدير، لأن هذه المشاعر هي التي ستشجعه على الاستمرار في العطاء بدافع الحب والاحترام. ومن دونها، سيشعر أن ما يقدمه لك أصبح حقًا مكتسبًا، وحينها سيتوقف عنه.
9- التقييم المستمر للعلاقة
من المهم أن تتوقف من حين لآخر لتقييم العلاقة. وترى، هل هناك توازن بين الأخذ والعطاء، أم أنك تُعطي أكثر مما تتلقى بكثير؟ وهل هناك أي مشاعر استياء أو إرهاق؟
هذا التقييم ضروري كل فترة، إذ تُقرر بناءً عليه ما إذا كنت ستستمر في جهودك أم ستتوقف لترى ماذا سيحدث. كما أنه يساعد على منع المشكلات قبل تفاقمها.
إذا شعرت بوجود خلل في التوازن، ينبغي أن تتحدث مع الطرف الآخر حتى يسعى لتحسين الأمور وتشعران كليكما بالراحة.
في ختام حديثنا عن التوازن بين الأخذ والعطاء، تذكر، عزيزي القارئ، أن العلاقات المثالية ليست تلك التي تكون خالية من العيوب، بل تلك التي تقوم على أساس التفاهم والتوازن. كلما حافظت على توازن صحي بين ما تقدمه للآخر وما تتلقاه، زادت فرصة نمو العلاقة واستمرارها. إذا شعرت يومًا بأنك تُعطي أكثر مما تأخذ أو العكس، تواصل مع الطرف الآخر بكل صراحة وحاولا معًا تحقيق التوازن الذي سيمكنكما من الاستمرار معًا في طريق مليء بالتقدير والاحترام.
♥️♥️🥹
مقال مهم واكثر من رائع بجد 🤍🤍🤍🤍