تُعد التراكمات النفسية من الموضوعات ذات الأهمية التي تؤثر بشكل كبير على حياة الأفراد. إذ يمكن أن تتحول المشاعر غير المُعالجة إلى عبء يرافق الشخص في مسيرته اليومية. وقد يكون من السهل تجاهل هذه المشاعر أو التعامل معها على أنها أمر بسيط سيزول بمرور الوقت، لكن الحقيقة هي أن تركها دون معالجة هو ما يؤدي إلى تفاقم المشكلة فيما بعد.
في إطار هذا الموضوع، نستكشف سويًا، عزيزي القارئ، أثر هذه التراكمات على الحياة اليومية، وأسبابها العميقة التي ستساعد على فهم جذور المشكلة بشكل أفضل، بالإضافة إلى كيفية التعرف على تراكماتك النفسية، مما سيمكنك من إدراك ما يحدث بداخلك بشكل أعمق. وأخيرًا، سنتناول الخطوات العملية التي ستخلصك من تلك الأعباء النفسية، حتى تبدأ رحلة جديدة نحو صحتك النفسية وتوازنك الداخلي.
فهم التراكمات النفسية وأثرها على الحياة اليومية
التراكمات النفسية هي جميع المشاعر السلبية التي تُخزن بداخلك ولم يتم تصريفها بطرق صحية أو في الوقت المناسب. قد تكون هذه التراكمات نتيجة خيبات أمل، مواقف صعبة، أو حتى التوتر المستمر الذي تتعرض له في حياتك اليومية. بمرور الوقت، تتحول هذه المشاعر إلى عبء يُثقل كاهلك ويؤثر سلبًا على صحتك النفسية والجسدية.
من الناحية النفسية، تفقد قدرتك على الاستمتاع بحياتك نتيجة شعورك الدائم بالقلق والاكتئاب. ومن الناحية الجسدية، تظهر آثار التراكمات في شكل آلام عضلية، اضطرابات في النوم، مشكلات بالجهاز الهضمي.
لمزيد من الواقعية، سأُطلعك، عزيزي القارئ، على تجربتي الشخصية بخصوص هذا الموضوع. أنا بطبيعة الأمر أنتمي إلى الشخصيات الكتومة، وقد عانيت كثيرًا بسبب كتماني هذا، إذ كان يؤثر على صحتي النفسية والجسدية وعلاقتي بالآخرين. كتماني لكل شيء بالتبعية كان يجعلني غارقة في التراكمات، لأنني عندما كنت أحزن أو أغضب، لا أُعبر عن ذلك في حينها، بل يكون بعدها بفترة، وقد لا أُعبر من الأساس. وبالتالي، كانت صحتي تتأثر كثيرًا، وعلاقاتي أيضًا.
وفي فترة من الفترات، كنت حزينة جدًا وبداخلي الكثير، فقرر جسدي أن يُرسل لي إشارة بالتوقف، إذ بدأ يظهر به كدمات كثيرة بشكل مفاجئ. فوجدت أن التراكمات تؤثر عليّ من كل النواحي، وحينها فقط قررت أن أحاول التغيير للأفضل في هذه النقطة. لن أخبرك أنني لم أعُد شخصية كتومة، لأن هذه طبيعتي والإنسان يصعب عليه التغيير في طبيعته، بل سأخبرك أنني تحسنت كثيرًا في هذا الجانب، وما زلت أُحاول التحسُن أكثر. الآن، أصبحت أُعبر عن ما يُضايقني أو يُغضبني في لحظتها، وأجلس مع نفسي من وقت لآخر كي أُرتب مشاعري، خاصةً عندما أُوضع في موقف وأجد أنني شعرت بشيء لا أفهم لماذا شعرت به.
بعد تقدمي هذا، قد يظن بعض الأشخاص في حياتي أنني قليلة الكلام، وأنني لا أستطيع التعبير عن مشاعري، لكن الحقيقة هي أنني أصبحت أختار بعناية من يمكنني التحدث أمامهم بتلقائية دون أن أُفكر في الكلام قبل أن أقوله، ومن أستطيع التعبير عن مشاعري أمامهم دون أن أُفهم بشكل خاطئ أو يتم الحكم عليّ. ولأنني بطبيعتي شخص يؤرقه التفكير، وجدت أن عدم كبتي لمشاعري يُغنيني عن أي أفكار ستراودني وستظل عالقة معي لفترة، وبالنهاية أكتشف أنها خاطئة وأنني ضيعت الكثير من وقتي وأنا أفكر فيها.
التعبير عن المشاعر حقًا يوفر الكثير من الوقت والجهد، إذ ستجد أن مشاعرك ستنتهي وتتبدل فور تفريغك لها، وأن المواقف والأحداث التي تستوقفك في المعتاد، ستبدو أقل وطأة. فبدلًا من أن تتراكم الأعباء، تبدأ الحياة في منحك فرصة لرؤية الأمور من منظور مختلف.
لماذا نُصبح عُرضة للتراكمات النفسية؟
نُصبح عُرضة للتراكمات النفسية نتيجة أننا في كثير من الأحيان نميل إلى تأجيل التعامل مع مشاعرنا، ويكون الأريح لنا تجاهلها. قد نميل إلى ذلك بسبب الضغوط اليومية أو نظرًا لأننا مشغولون بأشياء أخرى، وفي أحيان أخرى نكون خائفين من مواجهة حقيقة ما نشعر به، وبالتالي نلجأ إلى كبت مشاعرنا بدلًا من معالجتها. بالإضافة إلى ذلك، تلعب ثقافة المجتمع دورًا كبيرًا في طريقة التعامل مع المشاعر. على سبيل المثال، في مجتمعنا، يصعب على الرجال التعبير عن مشاعرهم، وعندما يبكي الرجل، يُنظر إليه على أنه شخص ضعيف لا ينبغي عليه أن يبكي، وإن بكى، يُفضل ألا يكون أمام أحد، مما يدفع الرجال إلى التظاهر بالقوة بدلًا من طلب العون والمساعدة.
كذلك الإناث في مجتمعنا ليس لديهن الحرية في التعبير عن مشاعرهن، حيث يُفرض عليهم قيود عند الغضب قد يخجلن من محاولة تجاوزها خوفًا من أن يتم رؤيتها على أنها تصرف غير لائق. بالإضافة إلى أن الأشخاص الذين لديهم تطلعات وطموحات عالية على المستوى المهني، قد يجعلون كل تركيزهم على الإنجازات الخارجية بدلًا من الاهتمام باحتياجاتهم الداخلية. كل هذه الضغوط المجتمعية تُسهم في ترسيخ فكرة أن كبت المشاعر هو الحل الأسلم. وبمرور الوقت، تصبح هذه المشاعر المكبوتة مصدرًا للتوتر والقلق، حيث تجعل الفرد ينهار على أبسط الأشياء ويصدر منه ردود فعل مبالغ فيها. مما يزيد من صعوبة التعامل مع هذه التراكمات.
كيف تتعرف على تراكماتك الشخصية؟
التعرف على تراكماتك الشخصية، عزيزي القارئ، يتطلب منك الوعي بمشاعرك المكبوتة منذ فترة طويلة. على سبيل المثال، ابدأ بملاحظة المشاعر التي تراودك باستمرار، كالتوتر والقلق دون أسباب واضحة، أو عندما تغضب بسرعة وبشدة على أسباب بسيطة. تلك المشاعر تشير إلى وجود تراكمات بداخلك لم تُعالج بالشكل المناسب.
كذلك العلامات الجسدية كالأرق والصداع المستمر وآلام العضلات التي ليس لها تفسير طبي تكون مؤشرًا على وجود تراكمات نفسية. بالإضافة إلى أن عدم قدرتك على الاسترخاء والاستمتاع بلحظاتك الحالية يدل أيضًا على وجود تراكمات.
علاوة على تلك العلامات، استرجاعك بشكل مستمر إلى أحداث من الماضي وعودة أفكار منها إلى السطح بشكل متكرر قد تكون دليلًا أيضًا على وجود مشاعر مكبوتة لم تتم معالجتها. لذا، ينبغي أن تلاحظ مشاعرك دائمًا حتى تتمكن من وضع يدك على جذور تلك التراكمات وبالتالي تتمكن من التخلص منها.
التخلص من التراكمات: خطوات عملية
التخلص من التراكمات النفسية يُعد رحلة طويلة وصعبة، لأن المشاعر التي تكونت على مدار سنوات نتيجة تجاهلها أو كبتها تتطلب وقتًا والتزامًا ورغبة حقيقية في التغيير. قد تواجه صعوبات في البداية، وقد تتأثر كثيرًا عندما تصطدم بحقيقة مشاعرك تجاه بعض الأمور، لكن التعامل مع هذه التراكمات بشكل صحيح سيُحدث اختلافًا كبيرًا في حياتك وصحتك النفسية، عزيزي القارئ. لذا، هيا بنا ننتقل إلى الخطوات العملية التي ستحررك من تلك الأعباء النفسية حتى تتمكن من استعادة توازنك النفسي والجسدي.
1- عبر عن مشاعرك المكبوتة ولا تنكرها
في بداية الأمر، ينبغي ألا تنكر حقيقة أن بداخلك الكثير من المشاعر المكبوتة، والتي نتج عن كبتها لفترات طويلة تحولها إلى تراكمات نفسية. إن منحك لنفسك فرصة الاعتراف بمشاعرك سواء كانت حزنًا أو خوفًا أو غضبًا، يُعد أولى الخطوات نحو التحرر من تأثيرها السلبي. اعترافك بمشاعرك لا يعني أن تذهب وتشاركها مع الآخرين، يكفي فقط أن تصارح بها نفسك وتكون واعيًا بوجودها.
بعد ذلك، يأتي التعبير عن تلك المشاعر، وذلك يتم بعدة طرق، منها أن تتحدث مع شخص تثق به، وأن تمارس الرياضة. كذلك يُعد الفن وسيلة فعّالة للتعبير عن المشاعر المكبوتة، مثل النحت أو الرسم والتلوين، وأنا شخصيًا أرى أن للألوان تأثيرًا كبيرًا إيجابيًا على الحالة النفسية للفرد. بالإضافة إلى ذلك، إذا كنت تُفضل الحديث أكثر من أي شيء آخر، فمن الممكن أن تستخدم التدوين الصوتي، وذلك بأن تفتح المسجل الصوتي على هاتفك وتبدأ بسرد ما تشعر به بصوت عالٍ، تلك الطريقة أيضًا قد تكون مريحة للتفريغ.
2- الجأ إلى الكتابة
من الطرق الفعّالة جدًا أيضًا في التعامل مع المشاعر المكبوتة هي الكتابة، إذ تُعد وسيلة للإفصاح والتشافي. عندما تكتب، تعطي نفسك مساحة آمنة كي تعبر عن كل ما يثقل كاهلك دون الخوف من انتقادات الآخرين أو أحكامهم. من خلال الكتابة، تنتظم أفكارك ومشاعرك، وتتمكن من رؤيتها أمام عينيك، وبذلك يسهل عليك تحديد أسبابها والتعامل معها بشكل أكثر واقعية. بإمكانك ممارسة هذه الطريقة من خلال كتابة يومياتك، وإن كنت لا تفضل الكتابة بشكل يومي، فبإمكانك اللجوء إليها عند الرغبة في تفريغ مشاعرك أو التخلص من التوتر الداخلي.
بعد فترة من ممارسة الكتابة، ستلاحظ، عزيزي القارئ، أنك أصبحت أكثر فهمًا لنفسك ولمسببات التراكمات لديك، بالإضافة إلى أنك عندما تعود لتقرأ ما كتبته من قبل، سترى بوضوح التقدم النفسي والعاطفي الذي أحرزته، مما يعزز من شعورك بالإنجاز ويزيد من ثقتك في قدرتك على التعامل مع مشاعرك.
3- اغفر لذاتك
غفرانك لذاتك يعد خطوة محورية في التخلص من التراكمات النفسية، لأن من خلاله تعترف بأنك إنسان طبيعي، يُخطئ ويُصيب، إنسان له إنجازاته وإخفاقاته. كي تصل إلى غفران الذات يجب أن تتقبل ماضيك بكل ما فيه، فأنت تصرفت فيه على قدر معرفتك وخبرتك، وأخطائك في الماضي تعني أنك تعلمت وأصبحت خبرتك أكبر الآن. لذا، انظر إلى نسختك الماضية برأفة، عزيزي القارئ، ولا تكُن قاسيًا على نفسك لأن ذلك سيساعدك على التحرر من الطاقة السلبية الناشئة عن نقدك لذاتك. فأنت تستحق العيش بسلام داخلي. وبمرور الوقت، ستجد أن هذا الغفران يمنحك شعورًا بالتحرر، ويجعلك أكثر قدرة على التعامل مع مشاعرك الحالية دون أن تثقلها تراكمات الماضي.
4- أعِد ترتيب أولوياتك
من الضروري أن تُعيد ترتيب أولوياتك عند الرغبة في التخلص من تراكماتك النفسية. فغالبًا ما تتفاقم التراكمات نتيجة انشغالك بأمور ثانوية لا تتوافق مع احتياجاتك الحقيقية. من خلال ترتيبك للأولويات، ستتمكن من تحديد الأمور الهامة التي تستحق منك اهتمامًا وتركيزًا، والأمور التي بإمكانك التخلص منها أو تأجيلها. مما يتطلب منك أن تكون واعيًا وصريحًا مع نفسك حول ما يُشعرك حقًا بالراحة والتوازن في حياتك، وما لم يعد يُلبي احتياجاتك أو أصبح يزيد من تراكماتك النفسية، سواء كان ذلك علاقات اجتماعية أو التزامات مهنية. بعد هذه الخطوة ستجد أنك أصبح لديك مساحة أكبر لرعاية ذاتك وصحتك النفسية، وبالتالي تقل من عليك الضغوط والتراكمات.
5- واجه مشاعرك فور الإحساس بها
مواجهتك لمشاعرك فور الإحساس بها هي الخطوة التي بدورها تمنع المشاعر من التراكم مع مرور الوقت. وهي تعني أنك تسمح لنفسك بالشعور بما يدور حولك لكن دون تجاهل أو كبت له. هذا لا يعني أنه في كل موقف سيكون لديك فرصة مواجهة مشاعرك، لكنك على الأقل ستعترف بوجود هذه المشاعر وستحاول استيعابها في أقرب وقت. على سبيل المثال، إذا شعرت بالحزن أو الغضب بسبب موقف معين، وكنت في بيئة غير مناسبة للتعبير عن ذلك في نفس اللحظة، فإنك ستخصص وقت لاحق للتعامل مع هذه المشاعر بدلًا من تجاهلها تمامًا كأنها لم تكن. مواجهة مشاعرك فور الإحساس بها لا تمنعك فقط من كبتها، بل على المدى البعيد تمنحك أيضًا القدرة على التحكم في ردود أفعالك وتُجنبك انفجار المشاعر المكبوتة الذي يحدث في مواقف لاحقة. بالتالي، تتجنب تراكم المشاعر السلبية، بل والتحرر منها تدريجيًا.
في النهاية، أريدك أن تعلم، عزيزي القارئ، أن عنايتك بصحتك النفسية أمر يجب أن تولي له اهتمامًا كبيرًا، فهو بمثابة هدية ثمينة تقدمها لنفسك. وأنه من الضروري أن تتوقف كل فترة وتسأل نفسك: كيف أشعر؟ وما الذي يمكنني تقديمه لنفسي كي أهتم بها أكثر؟ لأن كل جهد تبذله في سبيل فهم مشاعرك والتعامل معها بشكل صحي، هو خطوة نحو حياة أكثر راحة وسلام.
أشكرك على قراءتك، ألقاك في مقالات قادمة.
0 Comments