هل سبق لك وشعرت أثناء تواجدك في مكان ما، مع أشخاص ما، أنك لا تنتمي لهذا المكان أو لهؤلاء الأشخاص؟ هل تتذكر كم مرة راودك هذا الشعور باختلاف المواقف؟
الشعور بعدم الانتماء يعد تجربة شائعة ومؤلمة، كثيرون منا مروا بها من قبل، حتى أنا، أكتب لك وأنا لي تجارب كثيرة مع هذا الشعور. الشعور بعدم الانتماء ليس شعوراً عابراً، بل هو حالة نفسية لها تأثيرات سلبية عديدة على الفرد، يكفي فقط الضغط النفسي الذي يمر به نتيجة هذا الشعور، حيث يظل يسأل نفسه إذا كان بتواصله مع الآخرين خطأ ما؟ أو أن هذا الخطأ يكمن في ذاته؟
لكن الحقيقة هي أن هذا الشعور قد ينتج عن أسباب عديدة وليس بالضرورة أن تتعلق بالشخص نفسه، فالضغوط النفسية، والفروقات الفردية، وغيرها من العوامل، من شأنها جعل الفرد يشعر بأنه غير منتمي. ولا يوجد أحد منا معصوم من هذا الشعور، فجميعنا يأتي علينا أوقات نشعر فيها بالعزلة وعدم الانتماء، لكن الأهم من شعورنا ذاته، هو كيفية تعاملنا معه، وهل نحن نحتويه وندرك أسبابه، أم نلوم أنفسنا بلا جدوى وكأن بنا عيباً ما؟
في مقال اليوم، سنغوص في عمق الشعور بعدم الانتماء، نتعرف على أسبابه وتأثيراته، ونتناول سوياً استراتيجيات مواجهته والتغلب عليه. في محاولة منا لاستكشاف كيف يمكن تحويل هذا الشعور إلى دافع يجعلنا نبني علاقات أكثر عمقاً وصدقاً مع الآخرين.
ما معنى الشعور بعدم الانتماء؟
هو حالة نفسية تشعر فيها بالغربة وعدم الانسجام مع من حولك، وكأنك وُلدت في الحقبة الخطأ، هذه الحالة تدفعك للعزلة والانفصال عن مجموعة من الناس، أو بيئة معينة، أو المجتمع ككل. وقد يراودك هذا الشعور في مواقف ومراحل مختلفة من حياتك. دعني أحكي لك موقفاً، عزيزي القارئ، من ضمن المواقف الكثيرة التي شعرت فيها بأنني لا أنتمي لهذا المكان أو من فيه.
عندما أنهيت دراستي الثانوية وانتقلت إلى الجامعة، ظللت لفترة طويلة بلا أصدقاء، والأشخاص الذين تعرفت عليهم كانوا يشعرونني بالغربة، فهم لا يشبهونني، ولا يشبهوا أصدقائي القدامى، والذي كان يزيد من شعوري بعدم الانتماء تجاههم، أنهم وبالرغم من كونهم أصدقاء جدد في حياة بعضهم، إلا أنهم اندمجوا سوياً بسهولة وبسرعة كبيرة عني، الأمر الذي كان يدهشني وقتها، وكان يتردد داخلي سؤال واحد “كيف فعلوا ذلك؟”، ظل هذا الأمر يضايقُني فترة طويلة لأنني لم أستطع فعل ذلك بسهولة مثلهم، ولأني كنت أحاول كثيراً أن أنسجم معهم وفي كل مرة كنت أفشل في فعل ذلك. ومرت الأيام وأدركت أن تواصلي معهم كان لا يوجد به أي مشكلة، خاصةً عندما حاول أشخاص آخرون التعرف علي، ووجدت أنهم يشبهونني في طباع واهتمامات كثيرة، وأني أشعر بالراحة والاندماج وأنا معهم، وأصبحنا أصدقاء في مدة قصيرة، واكتشفت حينها أن الأشخاص الذين تعاملت معهم في البداية كان من الطبيعي أن أشعر تجاههم بعدم الانتماء، فلم يكن بيننا أي شيء نشترك أو نتشابه فيه، فلماذا كنت أرغم نفسي على أن يكونوا أصدقائي؟! ولماذا كنت أعتبر أن عدم اندماجي معهم أمراً سيئاً؟!
من المعروف أن الأشخاص والأماكن التي نشعر تجاهها بالانتماء تكون مشابهة لنا وتشعرنا بأننا على طبيعتنا، أما ما دون ذلك، فمن الطبيعي أن نشعر تجاهه بعدم الانتماء، وهذا ليس بالأمر السيء.
العوامل المؤدية إلى الشعور بعدم الانتماء
تتعدد أسباب الشعور بعدم الانتماء، ما بين فروق ثقافية، تغيرات حياتية، أو عوامل نفسية، ومعرفة مصدر هذا الشعور سيسهم في التعامل معه بشكل أفضل وأكثر فعالية. فيما يلي، أستعرض معك، عزيزي القارئ، العوامل التي قد تجعلك تشعر بعدم الانتماء.
- عدم تقبلك لاختلاف الآخرين
عدم تقبلك لاختلاف شخصيات الآخرين له علاقة كبيرة بشعورك بعدم الانتماء، فتصورك أن من ستشعر معهم بالانتماء سيكونون نسخة منك، تصور خاطئ تماماً، ولن يحدث أبداً، فلن تجد شخصاً يشبهك بالكامل في كل شيء، والعلاقات بالآخرين تقوم وتنجح على مدى تقبل اختلافات بعضنا البعض مادامت تلك الاختلافات ضمن الحدود المعقولة، وليست اختلافات جذرية، لذا لا تتوقع من الآخرين أن يشبهونك، ولا ترغمهم على البعد عنك نتيجة أنك لا تتقبل اختلافهم، كن شخصاً مريحاً في حياة الآخرين، وشخصاً يعطي لمن حوله المساحة الكافية كي يكونوا على طبيعتهم.
- اختلاف شخصيتك عن المألوف أو المنتشر
هذه النقطة تتعلق بعدم تقبل الآخرين لك، وهذا قد يرجع لعدة أسباب منها:
- إذا كانت قيمك ومعتقداتك مختلفة عن قيم ومعتقدات من حولك، فبالتأكيد ستجد صعوبة في التواصل والاندماج معهم، وبالتالي ستشعر بعدم الانتماء.
- إذا كانت اهتماماتك وهواياتك مختلفة عن السائد في المجتمع، فلن تجد بسهولة من يشاركك تلك الاهتمامات، بل لن تجد من يتفهمها من الأساس، وهذا أيضاً سيجعلك تشعر بعدم الانتماء.
- أيضاً البيئة الاجتماعية التي تعيش فيها تلعب دوراً كبيراً في شعورك بالانتماء أو عدمه، فإذا كنت مختلفاً في بيئة لا تتقبل الاختلاف، ولا تتسامح معه، فبالتأكيد ستشعر بأنك غير مرحب بك، وستشعر بأنك لا منتمي.
- كما أن معايير المجتمع بالنسبة لشخص مختلف، ستجعله يشعر بأنه مقيد وسيشعر دائماً بالضغط، ظناً منه أنه يجب عليه التغيير كي يتوافق مع المجتمع، مما يعزز الشعور بعدم الانتماء.
كل تلك العوامل تسبب الشعور بعدم الانتماء، خاصةً وأن الشخص المختلف عن المألوف لا يجد أن اختلافه يُحترم، أو يُقبل، بل يتعرض لمواقف كثيرة يتم فيها انتقاده ورفضه نتيجة لاختلافه. ردود الفعل المشابهة لهذه تعكس شخصيات أصحابها، وتكشف لنا عن مدى عدم نضجهم الفكري، لأن الشخص الناضج فكرياً يتقبل اختلاف من حوله، حتى وإن كان لا يتفق مع هذا الاختلاف، فهو يظل يحترم صاحبه ويتقبله، مادام اختلافه لن يؤذيه أو يؤذي الآخرين، فالشخص الناضج فكرياً يؤمن بمقولة “أنت حر ما لم تضر”، ويؤمن بأن التنوع في الشخصيات والأفكار هو جزء طبيعي من التجربة الإنسانية، وبالتالي هو يعطي الحرية للآخرين في طريقة التعبير، ويعطيهم حقهم في العيش بطريقة مختلفة.
- عدم قدرتك على التعبير عن ذاتك بوضوح
عدم قدرتك على التعبير عن نفسك بوضوح يعد جزءاً أساسياً من شعورك بعدم الانتماء. لأن ذلك يؤدي إلى مشكلات عديدة منها:
- تعرضك المتكرر لسوء الفهم من قِبل الآخرين، نظراً لكونك لا تستطيع التعبير عن نفسك وأفكارك ومشاعرك بشكل واضح، مما يخلق في علاقاتك حواجز كثيرة يترتب عليها شعورك بعدم الانتماء.
- تراجع ثقتك بنفسك، لأن عدم مقدرتك التعبير عن نفسك يُشعرك أنك كلامك غير مُقدر وغير مسموع، مما يزيد من مستوى توترك أثناء حديثك مع أي شخص آخر، ويعزز شعورك بأنك لا تنتمي لأحد.
- عندما لا تستطيع التعبير عن نفسك بوضوح، ستشعر بأنك غير مفهوم وغير مقبول من قِبل الآخرين، الأمر الذي سيجعلك تنعزل عنهم وبالتالي ستزداد الفجوة بينك وبينهم، وستظل تشعر بعدم الانتماء.
- تعرضك لتجارب سلبية عديدة
تعرضك لتجارب سلبية كالتنمر، الرفض، يترك أثراً طويل الأمد داخلك، هذا الأثر يجعلك تشك بنوايا الآخرين تجاهك، فتخاف من التفاعل والاندماج معهم، كما يجعلك ترى نفسك ضعيفاً، وهذا يؤثر سلباً على تقديرك لذاتك. مرورك بتلك التجارب قد يُحولك إلى شخص يتجنب أي مواقف بها تفاعلات اجتماعية، لأنك لا ترغب بتكرار ما حدث معك من قبل، وكل هذا يزيد من شعورك بالعزلة وعدم الانتماء تجاه الآخرين والبيئة التي تعيش فيها.
- اضطرابات نفسية
إذا كنت تعاني من مشكلات نفسية كالقلق والاكتئاب، فإن هذه المشكلات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالشعور بعدم الانتماء.
القلق والاكتئاب يجعلان فكرك مشوه عن نفسك، فتعتقد طوال الوقت أنك غير محبوب، وغير مرغوب فيك، كما أن الاكتئاب بالأخص يُفقدك القدرة على الاهتمام بأي شيء حتى الأنشطة والأشياء التي تحبها، مما يؤدي لانعدام فرص تعرفك على أشخاص قد تشعر معهم بالانتماء، بالإضافة إلى ذلك، الاكتئاب يجعلك غير قادر على تحقيق أي أهداف تريدها، مما يجعلك تشعر باليأس والإحباط، ويزيد من شعورك بعدم بالانتماء تجاه أي شيء.
استراتيجيات تعزيز الشعور بالانتماء
إذا كنت تعاني من الشعور بعدم الانتماء منذ فترة طويلة ووصلت إلى مرحلة اليأس منه، أريد أن أطمئنك، عزيزي القارئ، بأن هناك استراتيجيات يمكننا التدرب عليها معاً، كي نعزز شعورك بالانتماء، وهي:
- تمسك بشخصيتك وعِش بطريقتك الخاصة
في أول الأمر، أريد أن أسألك شيئاً، هل أنت تملك الثقة الكافية في شخصيتك كما هي، أم أنك تسعى باستمرار لتكون مثل من حولك؟
إن كانت إجابتك هي الخيار الأول، فهنيئاً لك، أنت تدرك قيمتك، وتعرف نفسك جيداً وتُقدر ما تملكه من صفات مميزة.
أما إن كانت إجابتك هي الخيار الثاني، أنك تسعى لتكون مثل الآخرين، فأريدك أن تأخذ خطوة إلى الوراء وتفكر معي، لماذا لا ترى شخصيتك كافية كي يتقبلك ويحبك الآخرون كما أنت؟! لماذا أنت غير راضٍ عن نفسك؟!
عزيزي القارئ، إذا كان كل البشر يشبهون بعضهم في الشخصية والطباع وأسلوب العيش، لما كانت الحياة جميلة وبها أحداثاً كثيرة، فجمال الحياة يكمن في تنوعنا واختلافنا، فلا تسعى لتقمص شخصية أحد غيرك، أنا أثق تماماً بأن شخصيتك تستحق الحب والدعم والانتماء، وأثق أيضاً أنك فريد من نوعك، أنت فقط ينقصك الإيمان بذلك، وتصديق أن حقيقة كل إنسان ستظل هي الأفضل على الإطلاق مهما حاول إبداء شيئاً غيرها.
لذا قدر ذاتك واعلم أن لكل فرد في هذه الحياة دوراً مهماً ومميزاً، وقد تكون صفاتك هي ما يحتاجه العالم اليوم، فلا تخشى أن تكون مختلفاً.
- ليس عليك أن تنسجم
إذ ليس من الضروري أن تنسجم مع كل من تقابلهم، ومن الطبيعي ألا تتوافق مع الجميع. كل شخص لديه اهتماماته وقيمه الخاصة به، وأنت ستنسجم فقط مع من يتبنى نفس قيمك ومبادئك وأفكارك، لذا لا تُجبر نفسك على الاندماج مع أشخاص لا يشبهونك من البداية، فهذا إرهاق عليك، عزيزي القارئ، وفر طاقتك لمن يشبهك، فهو من ستشعر تجاهه بالانتماء. أما باقي الأشخاص فاجعل علاقتك بهم محدودة أو سطحية.
- ارتقِ بمهارات تواصلك مع الآخرين
التواصل الجيد يمكنك من من بناء روابط قوية مع الآخرين، وتنمية مهارات التواصل الخاصة بك يعتبر مفتاحاً أساسياً لتعزيز شعورك بالانتماء.
من خلال التواصل الجيد تعبر عن نفسك بشكل أفضل، وأوضح، وستفهم احتياجات الآخرين بشكل أعمق. يترتب على ذلك زيادة الفهم والثقة والاحترام المتبادل، وعند توافر هذه السمات في علاقاتك مع من حولك، ستشعر حينها بالانتماء الحقيقي لهم.
- كُن رحيماً بنفسك
لُطفك ورحمتك بنفسك يعد نقطة انطلاق لتعزيز شعورك بالانتماء.
عندما تتعامل مع نفسك برأفة ولين في أوقات الفشل أو الضغوط التي تمر بها، فهذا يعزز من صحتك النفسية، ويقلل الشعور بالتوتر والقلق، كما أن رحمتك بنفسك وحُسن معاملتك لها أمراً يزيد من ثقتك بنفسك بشكل كبير، الأمر الذي تحتاجه كي تقيم علاقات بناءة مع الآخرين.
بالإضافة إلى أن اللُطف الذاتي سيعزز نموك الشخصي، فمن خلال تجاربك السيئة التي لا تجلد فيها ذاتك ولا تُعاقبها عليها، أنت تتعلم من أخطائك بشكل صحي، مما يعزز تفاعلك الاجتماعي، فتصبح أكثر انفتاحاً على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية، وبالتالي يزيد شعورك بالانتماء..
كما أن الشخص الذي يمارس اللُطف الذاتي يكون أكثر تقبلاً وتفهماً للآخر، لأن الطريقة التي يُعامل بها نفسه، هي ذاتها التي يتعامل بها مع الآخرين، مما يجعل العلاقة بينه وبينهم مبنية على الراحة والتقدير والشعور بالانتماء.
- لا تتردد في طلب المساعدة
إذا زاد شعورك بعدم الانتماء عن الحد المقبول وأصبح يؤثر عليك سلبياً بشكل لا تستطيع السيطرة عليه، لا تتردد في طلب المساعدة من مختص أو من أي شخص تثق به.
عندما تشارك ما تشعر به مع الآخرين، سواء كانوا مختصين أو أصدقاء أو أفراداً من العائلة، فهذا يقلل من شعورك بالعزلة ويفتح قناة للتواصل وبناء علاقات اجتماعية قوية. هذا التفاعل يعزز الثقة المتبادلة بينك وبين الآخرين، مما يخلق شعوراً بالانتماء تجاه الأشخاص أو المجموعة التي تتلقى منها الدعم. هذا الدعم سيؤكد لك أن هناك من يهتم بك ويقف معك في الأوقات الصعبة. وعند الاستفادة من خبرات الآخرين، ستشعر أنك لست وحدك وأن هناك حلولاً، وأن هذه المشكلة ليست أبدية، مما يزيد من شعورك بالراحة والأمان، كما أن هذا الدعم سيعزز من قدرتك على مواجهة التحديات ويسهم في تحسين صحتك النفسية. ولا تعتبر أن طلبك للمساعدة علامة ضعف، بل هو خطوة نحو بناء علاقات أقوى وشعور أعمق بالانتماء والدعم المتبادل.
خلاصة القول، عزيزي القارئ، الشعور بالانتماء هو جزء أساسي من تجربتنا الإنسانية. سواء كان ذلك من خلال الروابط العائلية، صداقات طويلة الأمد، أو تفاعلات يومية مع المجتمع، فإن كل لحظة تواصل تسهم في بناء هذا الشعور العميق بالانتماء، لذا لا تتردد في طلب المساعدة عندما تحتاج إليها، فالإنسان لا يمكنه العيش بمفرده.
وتذكر دائماً، أنت جزء مهم من هذا العالم، ولك دورك الفريد والقيم، وأن هناك دائماً من يهتم لأمرك ويُقدر وجودك ويُدرك أهميته.
أشكرك على قراءتك وأتمنى لك حياة تفيض بالسلام الداخلي والهدوء والانتماء.
0 Comments